1)- صور من ممازحة النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه :
نشرع في آداب المزاح إن شاء الله تعالى, والمزاح -بضم الميم: كلام يراد به المباسطة بحيث لا يفضي إلى أذى, فإذا بلغ إلى الإيذاء، فهو السخرية .
والمزاح بكسر الميم مصدر, وقد ثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنه مزح، وكان يمزح عليه الصلاة السلام, فقد روى الترمذي في كتاب الشمائل المحمدية : باب ما جاء في صفة مزاح رسول الله صلى الله عليه وسلم, عن أنس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال له
يا ذا الأذنين ).
قال أبو أسامة الراوي: أي: يمازحه, وليس المقصود السخرية أو الاستهزاء، وإنما ممازحة منه صلى الله عليه وسلم؛ لأن كل إنسان له أذنان, وهو حديث صحيح.
2)- قراءة في كتاب المراح في المزاح للغزي :
أما بالنسبة لآداب المزاح، فقد ذكر العلماء فيها أشياء كثيرة منهم: الماوردي رحمه الله في أدب الدنيا والدين , و للغزي رحمه الله كتاب بعنوان: المراح في المزاح , ونقتطف منه أجزاء في هذا الدرس.
قال: "الحمد لله على جميل أفضاله وجزيل بره ونواله, والصلاة والسلام على أشرف الخلق سيدنا محمد وصحبه وآله, وبعد: فقد سئلت قديماً عن المزاح وما يكره منه وما يباح، فأجبت؛ لأنه مندوب إليه بين الإخوان والأصدقاء والخلان، لما فيه من ترويح القلوب والاستئناس المطلوب، بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماك فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة".
المسألة ليست مسألة إقناع الناس أن المزاح أمر شرعي, فالناس -على كل حال- متفلتين في هذا الجانب, الآن القضية قضية ضبط المزاح ضبطاً شرعياً, فذكرنا بعض الضوابط في الأحاديث وسنعيدها مع شيء من التعليق, و-أيضاً- سيأتي في كلام صاحب هذه الرسالة المراح للغزي رحمه الله وبعض الأشياء الأخرى, قال: "بشرط ألا يكون فيه قذف ولا غيبة ولا انهماكٌ فيه يسقط الحشمة ويقلل الهيبة، ولا فحشٌ يورث الضغينة ويحرك الحقود الكنينة, ثم طلب السائل من بعد مدة بسط الكلام في ذلك وإيضاح الدلائل، فقلت مستعيناً بالله ومتوكلاً عليه ومفوضاً جميع أموري إليه: قد ورد في ذم المزاح ومدحه أخبار, فحملنا ما ورد في ذمه على ما إذا وصل إلى حد المثابرة والإكثار، فإنه إزاحةٌ عن الحقوق، ومخرجٌ إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويضيم الممازح".
بعض العبارات ربما إذا قارن أحد بعض الكتب يجدها منقولة، فمثلاً يقول الماوردي في كتابه: اعلم أن للمزاح إزاحة عن الحقوق ومخرج إلى القطيعة والعقوق, يصم المازح، ويؤذي الممازح, والعبارة تقريباً موجودة, فوصمه المازح: أن يذهب عنه الهيبة والبهاء ويجرئ عليه الغوغاء والسفهاء, ويورث الغل في قلوب الأكابر والنبهاء, وأما إضامة الممازح، فلأنه إذا قوبل بفعل ممضٍ أو قول مستكره وسكت عليه أحزن قلبه، وأشغل فكره -الذي يمزح معه في الغالب أنه تخرج منه المزحة بطريقة استهزاء، فهذا سيسكت على مضر, وربما يجامل ويضحك مع البقية في المجلس لكن في الحقيقة ماذا في قلبه؟- قال: أو قابل عليه مع صاحبه حشمة وأدباً، وربما كان للعداوة والبغضاء سبباً, فإن الشر إذا فتح لا يستد, وسهم الأذى إذا أرسل لا يرتد, وقد يعرض العرض للهتك، والدماء للسفك, وربما تكون هذه المقاتلة التي ربما تصل إلى سفك الدماء أصلها مزحة, فحق العاقل يتقيه وينزه نفسه عن وصمة مساويه, وعلى ذلك يحمل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم وأتى بها هنا بصيغة التضعيف: ( لا تماري أخاك ولا تمازحه ) لكن بما أنه لم يثبت فلا نتكلف الجواب عليه, لكن لو ثبت فنقول: ما معنى لا تمازحه وقد مازح النبي صلى الله عليه وسلم؟ فنقول: لا بد أن نحمل النهي عن الممازحة هنا على أمرٍ غير الذي ورد في الممازحة, فنقول: إن الممازحة كانت للدعابة والفكاهة والطرفة والملح، وكان فيها تطييب للنفوس، وتأليف للقلوب, وما ورد فيه النهي عنه إلا إذا كان فيه غيبة أو إيذاء للآخرين أو نحو ذلك .
3)- أقوال عابرة في المزاح :
قال عمر بن عبد العزيز : " اتقوا المزاح فإنها حمقة تولد ضغينة ".
وقال: " إن المزاح سبب إلا أن صاحبه يضحك ".
وقيل في ميسور الحكم:" المزاح يأكل الهيبة كما تأكل النار الحطب ".
وقال بعض الحكماء:" من كثر مزاحه زالت هيبته ومن كثر خلافه طابت غيبته ".
وقال بعض الشعراء:
أروق القلب ببعض الهزل تجاهل مني بغير جهل
أمزح فيه مزح أهل فضل والمزح أحياناً جلاء العقل
وقال أبو الفتح البستي رحمه الله وهو صاحب القصيدة المشهورة:
* زيادة المرء في دنياه نقصان **** وربحه غير محض الخير خسران
* أفض طبعك المكدود بالجد راحةً **** يجم وعلله بشيءٍ من المزح
* ولكن إذا أعطيته المزح فل **** يكن بمقدار ما تعطي الطعام من الملح
إذاً: فليكن المزاح في الكلام مثل الملح في الطعام, وإذا لم يوجد بالمرة كان الكلام فيه شيء من السآمة, وإذا كثر أفسد، مثلما أن الملح إذا كثر في الطعام أفسده وما عاد مستساغاً، إما أن يكون غير مستساغ أو ممجوج.